الدولة، التي تتكون من أرض وسكان (أو شعب) وحكومة، من إنتاج البشر. إنها نتاج
تنظيم البشر السياسي. ونظرا إلى أن الدول من إنتاج البشر فيمكنهم أن يزيلوها وأن
يعززوها ويوحدوها. والدولة ضرورية في حياة البشر. فهي الأداة اللازمة للإسهام في
تنظيم وإدارة شؤون المجتمع. والمفترض أن تكون الحكومة أداة إنفاذ وتنفيذ القوانين
والأنظمة للدولة. وحتى تستطيع القيام بهذه المهمة ينبغي أن تكون لها سلطة. وثمة سمة
تسلطية وقسرية وبيروقراطية في ممارسة الحكومة لسلطاتها وفي قيامها بنشاطاتها. ويجب
التمييز بين الدولة والمتولين للسلطات الحكومية وسياساتهم. أحيانا كثيرة يحدث خلط
بين الدولة والمتولين للسلطات الحكومية، وأيضا بين الدولة وسياساتهم. ولذلك توجه في
حالات كثيرة الانتقادات إلى الدولة بينما يجب أن توجه الانتقادات إلى المتولين
للسلطات الحكومية.
وفي جميع الدول لا يقوم تلاحم بين ذوي السلطة والشعب بل يقوم انفصال بينهما.
وتختلف الدول بعضها عن بعض في مدى هذا الانفصال. بل ثمة في الدول العربية انفصال
كبير واضح بين الدولة، من ناحية، والشعب والمجتمع، من ناحية ثانية. وموافقة الشعب
بأغلبيته على سياسة الحكومة أو تمثيل الحكومة للشعب مصدر من مصادر مشروعيتها.
والحكومة التي لا تحظى بهذه الموافقة تفتقر إلى قدر كبير من المشروعية. وعدم
مشروعية الحكومة يضعف سلطتها مما يضعفها، وبالتالي يكون مصدر ضعف للدولة. والحكومة
التي تفتقر إلى موافقة أفراد الشعب وإلى تمثيلها لهم تكون قلقة منهم. ونظرا إلى
قلقها من الشعب تنكل به إذا اشتكى أو تذمر.
وأحيانا يوجد اختلاف بين رؤى الحكومة والمجتمع. وإذا وجد هذا الاختلاف أوجد
إشكالا فيما يتعلق بالموقف الذي يتخذه أفراد المجتمع حيال الحكومة. فبينما يلزم أن
يتاح للحكومة القيام بوظائفها الاعتيادية، من قبيل التنمية الاقتصادية والاجتماعية
وبناء المؤسسات الوطنية، تقوم الحكومة، ربما لضعفها أو لسوء إدارتها أو لفسادها،
بالتعاون مع جهات أجنبية لها أثر في وضع الحكومة لسياستها الداخلية والخارجية، مما
يوجد احتك[size=24]اكا وتوترا بين الحكومة وشرائح المجتمع.
ولم تنشأ في كثير من الدول النامية دولة الشعب والمواطنين. وإحدى مشاكل الشعوب
النامية أن حكوماتها قوية حيال هذه الشعوب ولكن الحكومة والدولة ضعيفتان بوصفهما
مؤسستين. وفي كثير من المناطق في العالم النامي يصيب الحكومات والدول الضعف ولم
تترسخ ترسخا مؤسسيا. وفي حالات كثيرة انهارت الحكومة والدولة. وفي هذه الحالات مما
يخدم مصالح الشعوب إعادة بناء الحكومة أو الدولة إذا كانت منهارة وتقويتها
وترسيخها. إن غياب الحكومة أو الدولة أو انهيارها مبعث ضرر كبير للشعب. ومن الأسئلة
التي ينبغي أن تسأل السؤال التالي: ما هو الأفضل بالنسبة إلى الشعب: قيام الحكومة
أو الدولة التسلطية أو انعدام هذه الحكومة أو الدولة إذا كانت لا بد من أن تكون
تسلطية.
ولا يوجد على وجه المعمورة نظام حكم منصف أو عادل مئة بالمئة. وتختلف نظم الحكم
بعضها عن بعض في مدى ذلك الإنصاف أو العدل. وأحد أسباب استحالة الإنصاف أو العدل هو
أن مقتضيات ممارسة الحكم من العوامل التي تفرض على المتولي للسلطة سياسته. ومقتضيات
ممارسة الحكم ومواصلة الإمساك بزمام السلطة في الحياة البشرية المعقدة أحد العوامل
في جعل الحاكم متجاوزا لنطاق سلطته. ولمحاولة التصدي لهذه التجاوزات يجب توفر قوى
مستقلة نسبيا تؤدي دور القوى المتصدية والكابحة لتلك التجاوزات. ومن الأسهل كثيرا
نشوء هذه القوى وممارستها لنشاطاتها في ظل الحكم الديمقراطي.
والحكومة العربية قوية أكثر مما ينبغي ومتجاوزة حيال المجتمع العربي. ولذلك
ينبغي الحد من هذه القوة والتجاوز. ولتحقيق هذا الحد تجب تقوية المجتمع المدني. وعن
طريق هذه التقوية ينشأ تأثير للسكان في مؤسسات الحكم وفي توجيه السكان لسياسة هذه
المؤسسات وينشأ التفاعل الإيجابي بين مؤسسات الحكم والمجتمع، وتصبح مؤسسات الحكم
أكثر مراعاة لمواقف الناس وتنشأ إمكانية نقد ممارسات وسياسات تلك المؤسسات، مما قد
يسهم في جعل تلك الممارسات والسياسات أكثر فائدة للشعب. ومما يضعف أو يفشل عمل
المنتقدين للسلطات الحكومية المتجاوزة أو الجائرة أو القامعة هو افتقار عمل التصدي
للتجاوز والبغي الحكوميين إلى البنية المؤسسية المنتظمة.
ولتقوية المجتمع المدني تجب إشاعة قيم المجتمع المدني التي تشمل قيم المواطنة
والمواطنة الصالحة والقيم الديموقراطية وقيم الحرية (طبعا، في إطار القيم الخلقية
والمصالح العليا للشعب) ودولة القانون ودولة المواطنين والدولة الخادمة لمواطنيها
وليست الدولة القامعة القاهرة لهم. ويجب وضع نظام دستوري ديمقراطي يكون آلية لتفاعل
مختلف التيارات بعضها مع بعض لضمان تسوية الخلافات بالطرق السلمية.
ونظرا إلى أن الدولة أداة يمكنها أن تؤدي دورا ذا شأن في حماية المواطنين وحماية
هويتهم الثقافية أو القومية أو الدينية يجب الدفاع عنها حيال محاولات إضعافها
وإضعاف أو إزالة سيادتها. وإذا ضعفت الدولة أو زالت أصبح سكانها أشد عرضة لمخاطر
أجنبية قد لا يكون لهم قبل بالتصدي لها. ومن شأن إشاعة هذه القيم وتأسيسها وترسيخها
أن تسهم في إزالة مؤسسات اجتماعية وسياسية تجب إزالتها إذا كانت تناقض روح القيم
والمؤسسات المذكورة أعلاه.
وتوجد عوامل تضعف الدولة، ومن هذه العوامل إساءة استعمال السلطات من قبل
المتولين لممارستها. فهؤلاء أحيانا كثيرة يتصرفون وكأنهم يمتلكون الدولة، ولا
يعتبرونها دولة جميع مواطنيها. ومفهومهم للدولة ليس مفهوم الدولة باعتبارها أداة
للنهوض بالمجتمع ولحماية أفراد الشعب ولإقامة العدالة في صفوفهم. مفهومهم للدولة
مفهوم المؤسسة التي تخولهم التصرف دون رقيب ولا حسيب وإقصاء الآخر المخالف او
المختلف عن المشاركة في تسيير شؤون الدولة.
وذلك السلوك من جانب المتولين لمقاليد السلطة الحكومية من شأنه أن يؤدي إلى نشوب
النزاع والصراع بينهم وبين فئات الشعب التي لا تتمتع بالمساواة في الدولة والتي
تحرم من المشاركة في تولي السلطة وفي تسيير شؤون الدولة وتحرم رؤيتها من النظر فيها
واعتبارها.
وفي جميع دول العالم، منها الدول التي توصف بأنها دول ديمقراطية، تقوم فجوة بين
أمنيات الذين يتولون السلطة الحكومية وسكان الدولة. غير أنه يبدو أن هذه الفجوة
أوسع في البلدان النامية منها في البلدان المتقدمة النمو.
ويجب أن تكون حقوق المواطنين وحرياتهم ومصالحهم وهويتهم القومية والثقافية
والدينية والإنسانية محمية بالدولة، ويجب أن تكون الدولة تجسيدا لها وتعبيرا عن
إرادة مواطنيها. ويمكن أن يحقق ذلك عن طريق تضييق الفجوة وردمها إن أمكن بين
الهيئات الحكومية والشعب، وعن طريق تعزيز المجتمع المدني الذي يعرف أفراده أهمية
صون حقوقهم وأهمية المحافظة على الدولة، وعن طريق التنشئة على قيم الاحتراف والتخصص
وتداول السلطة، واحترام القيم الديمقراطية، ومنها حرية التعبير عن الرأي، وإنشاء
المؤسسات التي ترعى هذه القيم وتحافظ عليها.
وينبغي ألا يكون دعم المؤسسات الحكومية للفئات المدنية مشروطا بشروط يؤدي الوفاء
بها إلى فقدان تلك الفئات لاستقلالها. ليس من السليم أن تدجن الدولة، ممثلة في
الهيئة الحكومية، أو أن تبتلع المنظمات المدنية التي لا تنتمي إلى المتولين للسلطة
الحكومية أو الذين لا يدعمون سياساتها. وليس من صلاحية الهيئات الحكومية أن تفعل
ذلك. الحالة المثلى هي أن تتخذ الحكومة موقفا محايدا حيال المنظمات المدنية. ومدى
مراعاة الحكومة لهذا الاعتبار مقياس على قوتها وصلاحها وثقتها بنفسها.
ويجب أن يقوم توازن بين مصالح الحكومة والدولة، من ناحية، ومصالح الشعب
والمجتمع، من ناحية أخرى. وأحيانا كثيرة وفي حالات كثيرة يميل الميزان من حيث القوة
والتأثير لمصلحة الحكومة أكثر بكثير مما ينبغي. ومن اللازم أن يحكم ويحدد العلاقات
بين الحكومة والدولة والشعب والمجتمع ميثاق أوعقد اجتماعي محترم مدون أو غير مدون،
ميثاق يحدد طبيعة العلاقات بينها ويضع حدودا لعلاقات بعضهما ببعض، بحيث لا تتجاوز
الحكومة حدودها على حساب المجتمع ولا يتجاوز أفراد المجتمع الحدود على حساب الحكومة
والدولة، ميثاق يحظر على الدولة ألا تراعي المجتمع وحاجاته وأن تدوس عليه.
ولا بد من أن تستمد مضامين هذا الميثاق ليس فقط من مبادئ الديمقراطية والعدالة
وصلاح الحكم، ولكن أيضا من تاريخ كل مجتمع وثقافته وظروفه الخاصة به وقيمه الأساسية
ومن تطلعاته ومصالحه. ولا يصح أن يطبق على مجتمع ميثاق مستمد من تجربة مجتمع
آخر.
وحتى يسهل وضع مثل هذا الميثاق ويسهل تحقيقه يجب أن ينشأ شعور بالحاجة المتبادلة
والمشتركة بين الدولة يمؤسساتها، من ناحية، وسكانها، من ناحية أخرى: أن يشعر أفراد
المجتمع بأنهم يحتاجون الدولة، وأن تشعر الدولة بأهمية دور المجتمع الهام في المجال
الاقتصادي والثقافي والسياسي.
وهذا العقد أو الميثاق أساس من أسس الديمقراطية أو مدماك من مداميكها. والإطار
الديمقراطي من قبيل إجراء الانتخابات وصياغة الدستور والإعلان عن الأخذ به لا يكفي
لإقامة نظام ديمقراطي دون أن تتوفر الظروف المواتية لممارسة هذا النظام من قبيل
الحرية الفكرية، بما في ذلك حرية الإعراب عن الرأي، والمشاركة في الانتخابات الحرة
ووجود منظمات المجتمع المدني التي تمارس نشاطاتها التي تشمل النهوض بالحقوق المدنية
والسياسية والاقتصادية والدفاع عنها. وبذلك يقررون إلى حد كبير هوية الذين يتولون
السلطات الرسمية. حتى تكون هذه المؤسسات الديمقراطية فعالة ينبغي أن تكون مستعملة
وأن تكون مستفادا منها وممارسة. فإذا توفرت هذه المؤسسات دون أن تمارس لا يصح أن
يقال إن النظام الديمقراطي قائم.
ومما من شأنه أن يسهم في إيجاد علاقات بناءة وإيجابية بين السلطات الرسمية
للدولة وأفراد الشعب أن يراعي الواحد منهما الآخر، وأن ينشأ شعور لديهما باشتراك
تبادل الحاجة بينهما، وأن يعي كل منهما بوجوب معرفة حدوده وبوجوب مراعاة هذه
الحدود. ومما من شأنه أيضا أن يسهم في إيجاد علاقات بناءة وإيجابية بين السلطات
الرسمية وأفراد الشعب أن يدركا تكاملهما وأن يتصرفا بوحي من هذا الإدراك وهذا
التكامل.
وينبغي للسلطات الرسمية أن ترعى كل شرائح الشعب، ومنها شرائح الكتاب والأدباء
والفنانين والمفكرين في مختلف مجالات الحياة. فهؤلاء ينبغي أن يشاركوا وهم في حالات
معينة يشاركون مشاركة كبيرة في صناعة الوجدان والأفكار والقيم النبيلة والجميلة
ويؤدون دورا ذا شأن في حماية الثقافة الوطنية وإثرائها وإخصابها وفي تعزيز الهوية
القومية والإنسانية. وينبغي للسلطات الرسمية أن تؤمن لهم حضورا في الحياة السياسية
والفكرية والثقافية للشعب. مما ينتقص قيمة الدولة والمجتمع عدم إيلاء الاعتبار
للكتاب والأدباء والفنانين والمفكرين.
ومن المهم أن تنشأ وتتعزز هيئات وقوى المجتمع المدني التي تساعد على مراقبة
الممارسين للسلطة الحكومية وغير الحكومية. ومن اللازم العمل على إيجاد هيئات ثقافية
وفكرية وفنية وأدبية تكون من بين الهيئات المراقبة لسلوك المتولين للسلطة الحكومية
وغير الحكومية.
وتختلف نظم الحكم بعضها عن بعض في مدى اتساع أو ضيق رقعة حرية الإعراب عن الفكر
وفي مدى تحملها للاستماع إلى الفكر المخالف. كلما ضاقت هذه الرقعة وقل هذا التحمل
تعززت السمة التسلطية والقمعية والقهرية لتلك النظم. وتختلف النظم الحكومية بعضها
عن بعض في مدى تكرر تجاوزاتها وطغيانها للحفاظ على وجودها أو لسبب آخر، فكلما زاد
تكرر هذه التجاوزات تعزز الطابع الباغي الإملائي للنظام. وتختلف بعضها عن بعض في
مدى طمس أو وضوح الحدود بين خزانة الدولة وأموال المتولين للسلطات الرسمية، فكلما
ازدادت الحدود انطماسا تعززت صفة الدولة المستبدة وكلما ازدادت الحدود وضوحا تعززت
صفة الدولة الديمقراطية المساءلة. وتختلف بعضها عن بعض في مدى الاستقلال الذي تتمتع
به الصحافة ومدى الحرية التي يتمتع بها اصحاب الفكر والقلم، فكلما زاد ذلك
الاستقلال والحرية تعزز الطابع الديمقراطي للدولة.
وبسبب تخلف البلدان النامية في مجالات كثيرة، مجالات التنمية الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية ونشر التعليم ومحو الأمية واستكمال بناء مؤسسات الدولة، فإن
المؤسسات العامة والحكومية في البلدان النامية يتعين عليها القيام بوظائف أكثر من
الوظائف التي تقوم بها تلك المؤسسات في البلدان المتقدمة النمو.
وتؤدي المؤسسات الحكومية والعامة، من قبيل المحاكم والمجالس التشريعية
والاستشارية، في كل أنحاء المعمورة دورا كبيرا في إيجاد اتجاهات فكرية وعقائدية
وقيمية معينة وفي تشجيعها وتعزيزها. وحدث وما يزال يحدث احتكاك أو تصادم بين تلك
المؤسسات وشرائح من الشعب لأن تلك الاتجاهات تستوحي المصالح والاعتبارات الأجنبية
ولا تستلهم اعتبارات ومصالح الشعب، ما يؤدي إلى نشوء أو اتساع الفجوة بين مؤسسات
الحكم والشعب.
إن ممارسة المؤسسات الحكومية والعامة لسلطاتها وتأكيدها لمشروعيتها يتوقفان على
عوامل منها توليها لإدارة شؤونها وإمساكها بأداة القسر ووضع الأنظمة وتفردها
بامتلاكها لقدر كبير من القوة لإنفاذ الأنظمة ولجعل السكان يمتثلون لإرادة تلك
المؤسسات. ومن تلك العوامل أيضا تحقيق رضى سكان الدولة وقبولهم بالمعنى القيمي
والعقائدي الذي يتجسد في ممارسات تلك المؤسسات ووجوه سلوكها. وبذلك تؤدي هذه
المؤسسات دورا كبيرا في إيجاد الوعي الذي يعبر عن أيديولوجيتها وتوجهها. ويتم أداء
هذا الدور بواسطة إنتاج القيم والرموز وإشاعتها وتنشئة السكان عليها. ويتم هذا
الإنتاج والإشاعة والتنشئة عن طريق التثقيف والتوجيه القيمي والسياسي باستعمال
وسائط الاتصال وباستعمال وسائل الترغيب والترهيب التي تمتلكها تلك المؤسسات. وتوجد
هذه المؤسسات هذا الوعي أيضا عن طريق تعهد فئات مثقفة بالرعاية واستمالتها عن طريق
منحها امتيازات معنوية ومادية.
وتسهم في تحديد معالم هذه الأيديولوجية عوامل موضوعية وذاتية غير المؤسسات
الحكومية والعامة. ومن هذه العوامل التاريخ والتراث وعوامل جغرافية وعرقية وبنية
علاقات القوى الاجتماعية وبنية المحيط الاجتماعي وطبيعة التنشئة وطبيعة الثقافة
السائدة والبيئة السياسية الخارجية. وهذه كلها تتفاعل مع وظائف وممارسات هيئات
الدولة. وفيما يتعلق بالأيديولوجية الرسمية التي تسود معظم البلدان العربية كتب
المفكر محمود أمين العالم أن هذه الأيديولوجية "تتراوح داخل مركب أيديولوجي بنسب
متفاوتة تجمع بين … الفكر القومي المظهري والفكر الوضعي التحديثي الإجرائي والفكر
الطائفي القبلي" ويتخذ هذا المركب الأيديولوجي، في نظر العالم،
"أشكالا بالغة التنوع والتعقيد والخفاء والمراوغة، تتستر وراء مظاهر التحديث
الخارجي البراني لإخفاء ما تتسم به من سيادة التخلف والتعصب والتسلط والجمود
والتدين المظهري النفعي واللاعقلانية، والرؤى الجزئية والآنية والمصلحية المحدودة
التي تفتقد الرؤية الاستراتيجية الشاملة والمنهجية الموضوعية العلمية. كما تخفي
بهذا المركب الأيديولوجي اعتمادها الأساسي على القوى الخارجية في دعم مشروعيتها
وحماية سلطانها".
ومن أسباب هذا المركب الأيديولوجي تعدد مصادر القيم التي تسود المجتمع وتعدد
أشكال أنماط الإنتاج وتعدد أشكال البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتعدد
مصادر الدخل والثروة. لوجوه تعدد هذه الأشكال دور فعال في تحديد طبيعة التوجهات
الثقافية والقيمية والفكرية التي تسود المجتمع والدولة وتؤثر فيهما وفي تحديد طبيعة
العلاقات العربية على المستوى الفردي والجماعي.
الدولة، التي تتكون من أرض وسكان (أو شعب) وحكومة، من إنتاج البشر. إنها نتاج
تنظيم البشر السياسي. ونظرا إلى أن الدول من إنتاج البشر فيمكنهم أن يزيلوها وأن
يعززوها ويوحدوها. والدولة ضرورية في حياة البشر. فهي الأداة اللازمة للإسهام في
تنظيم وإدارة شؤون المجتمع. والمفترض أن تكون الحكومة أداة إنفاذ وتنفيذ القوانين
والأنظمة للدولة. وحتى تستطيع القيام بهذه المهمة ينبغي أن تكون لها سلطة. وثمة سمة
تسلطية وقسرية وبيروقراطية في ممارسة الحكومة لسلطاتها وفي قيامها بنشاطاتها. ويجب
التمييز بين الدولة والمتولين للسلطات الحكومية وسياساتهم. أحيانا كثيرة يحدث خلط
بين الدولة والمتولين للسلطات الحكومية، وأيضا بين الدولة وسياساتهم. ولذلك توجه في
حالات كثيرة الانتقادات إلى الدولة بينما يجب أن توجه الانتقادات إلى المتولين
للسلطات الحكومية.
وفي جميع الدول لا يقوم تلاحم بين ذوي السلطة والشعب بل يقوم انفصال بينهما.
وتختلف الدول بعضها عن بعض في مدى هذا الانفصال. بل ثمة في الدول العربية انفصال
كبير واضح بين الدولة، من ناحية، والشعب والمجتمع، من ناحية ثانية. وموافقة الشعب
بأغلبيته على سياسة الحكومة أو تمثيل الحكومة للشعب مصدر من مصادر مشروعيتها.
والحكومة التي لا تحظى بهذه الموافقة تفتقر إلى قدر كبير من المشروعية. وعدم
مشروعية الحكومة يضعف سلطتها مما يضعفها، وبالتالي يكون مصدر ضعف للدولة. والحكومة
التي تفتقر إلى موافقة أفراد الشعب وإلى تمثيلها لهم تكون قلقة منهم. ونظرا إلى
قلقها من الشعب تنكل به إذا اشتكى أو تذمر.
وأحيانا يوجد اختلاف بين رؤى الحكومة والمجتمع. وإذا وجد هذا الاختلاف أوجد
إشكالا فيما يتعلق بالموقف الذي يتخذه أفراد المجتمع حيال الحكومة. فبينما يلزم أن
يتاح للحكومة القيام بوظائفها الاعتيادية، من قبيل التنمية الاقتصادية والاجتماعية
وبناء المؤسسات الوطنية، تقوم الحكومة، ربما لضعفها أو لسوء إدارتها أو لفسادها،
بالتعاون مع جهات أجنبية لها أثر في وضع الحكومة لسياستها الداخلية والخارجية، مما
يوجد احتكاكا وتوترا بين الحكومة وشرائح المجتمع.
ولم تنشأ في كثير من الدول النامية دولة الشعب والمواطنين. وإحدى مشاكل الشعوب
النامية أن حكوماتها قوية حيال هذه الشعوب ولكن الحكومة والدولة ضعيفتان بوصفهما
مؤسستين. وفي كثير من المناطق في العالم النامي يصيب الحكومات والدول الضعف ولم
تترسخ ترسخا مؤسسيا. وفي حالات كثيرة انهارت الحكومة والدولة. وفي هذه الحالات مما
يخدم مصالح الشعوب إعادة بناء الحكومة أو الدولة إذا كانت منهارة وتقويتها
وترسيخها. إن غياب الحكومة أو الدولة أو انهيارها مبعث ضرر كبير للشعب. ومن الأسئلة
التي ينبغي أن تسأل السؤال التالي: ما هو الأفضل بالنسبة إلى الشعب: قيام الحكومة
أو الدولة التسلطية أو انعدام هذه الحكومة أو الدولة إذا كانت لا بد من أن تكون
تسلطية.
ولا يوجد على وجه المعمورة نظام حكم منصف أو عادل مئة بالمئة. وتختلف نظم الحكم
بعضها عن بعض في مدى ذلك الإنصاف أو العدل. وأحد أسباب استحالة الإنصاف أو العدل هو
أن مقتضيات ممارسة الحكم من العوامل التي تفرض على المتولي للسلطة سياسته. ومقتضيات
ممارسة الحكم ومواصلة الإمساك بزمام السلطة في الحياة البشرية المعقدة أحد العوامل
في جعل الحاكم متجاوزا لنطاق سلطته. ولمحاولة التصدي لهذه التجاوزات يجب توفر قوى
مستقلة نسبيا تؤدي دور القوى المتصدية والكابحة لتلك التجاوزات. ومن الأسهل كثيرا
نشوء هذه القوى وممارستها لنشاطاتها في ظل الحكم الديمقراطي.
والحكومة العربية قوية أكثر مما ينبغي ومتجاوزة حيال المجتمع العربي. ولذلك
ينبغي الحد من هذه القوة والتجاوز. ولتحقيق هذا الحد تجب تقوية المجتمع المدني. وعن
طريق هذه التقوية ينشأ تأثير للسكان في مؤسسات الحكم وفي توجيه السكان لسياسة هذه
المؤسسات وينشأ التفاعل الإيجابي بين مؤسسات الحكم والمجتمع، وتصبح مؤسسات الحكم
أكثر مراعاة لمواقف الناس وتنشأ إمكانية نقد ممارسات وسياسات تلك المؤسسات، مما قد
يسهم في جعل تلك الممارسات والسياسات أكثر فائدة للشعب. ومما يضعف أو يفشل عمل
المنتقدين للسلطات الحكومية المتجاوزة أو الجائرة أو القامعة هو افتقار عمل التصدي
للتجاوز والبغي الحكوميين إلى البنية المؤسسية المنتظمة.
ولتقوية المجتمع المدني تجب إشاعة قيم المجتمع المدني التي تشمل قيم المواطنة
والمواطنة الصالحة والقيم الديموقراطية وقيم الحرية (طبعا، في إطار القيم الخلقية
والمصالح العليا للشعب) ودولة القانون ودولة المواطنين والدولة الخادمة لمواطنيها
وليست الدولة القامعة القاهرة لهم. ويجب وضع نظام دستوري ديمقراطي يكون آلية لتفاعل
مختلف التيارات بعضها مع بعض لضمان تسوية الخلافات بالطرق السلمية.
ونظرا إلى أن الدولة أداة يمكنها أن تؤدي دورا ذا شأن في حماية المواطنين وحماية
هويتهم الثقافية أو القومية أو الدينية يجب الدفاع عنها حيال محاولات إضعافها
وإضعاف أو إزالة سيادتها. وإذا ضعفت الدولة أو زالت أصبح سكانها أشد عرضة لمخاطر
أجنبية قد لا يكون لهم قبل بالتصدي لها. ومن شأن إشاعة هذه القيم وتأسيسها وترسيخها
أن تسهم في إزالة مؤسسات اجتماعية وسياسية تجب إزالتها إذا كانت تناقض روح القيم
والمؤسسات المذكورة أعلاه.
وتوجد عوامل تضعف الدولة، ومن هذه العوامل إساءة استعمال السلطات من قبل
المتولين لممارستها. فهؤلاء أحيانا كثيرة يتصرفون وكأنهم يمتلكون الدولة، ولا
يعتبرونها دولة جميع مواطنيها. ومفهومهم للدولة ليس مفهوم الدولة باعتبارها أداة
للنهوض بالمجتمع ولحماية أفراد الشعب ولإقامة العدالة في صفوفهم. مفهومهم للدولة
مفهوم المؤسسة التي تخولهم التصرف دون رقيب ولا حسيب وإقصاء الآخر المخالف او
المختلف عن المشاركة في تسيير شؤون الدولة.
وذلك السلوك من جانب المتولين لمقاليد السلطة الحكومية من شأنه أن يؤدي إلى نشوب
النزاع والصراع بينهم وبين فئات الشعب التي لا تتمتع بالمساواة في الدولة والتي
تحرم من المشاركة في تولي السلطة وفي تسيير شؤون الدولة وتحرم رؤيتها من النظر فيها
واعتبارها.
وفي جميع دول العالم، منها الدول التي توصف بأنها دول ديمقراطية، تقوم فجوة بين
أمنيات الذين يتولون السلطة الحكومية وسكان الدولة. غير أنه يبدو أن هذه الفجوة
أوسع في البلدان النامية منها في البلدان المتقدمة النمو.
ويجب أن تكون حقوق المواطنين وحرياتهم ومصالحهم وهويتهم القومية والثقافية
والدينية والإنسانية محمية بالدولة، ويجب أن تكون الدولة تجسيدا لها وتعبيرا عن
إرادة مواطنيها. ويمكن أن يحقق ذلك عن طريق تضييق الفجوة وردمها إن أمكن بين
الهيئات الحكومية والشعب، وعن طريق تعزيز المجتمع المدني الذي يعرف أفراده أهمية
صون حقوقهم وأهمية المحافظة على الدولة، وعن طريق التنشئة على قيم الاحتراف والتخصص
وتداول السلطة، واحترام القيم الديمقراطية، ومنها حرية التعبير عن الرأي، وإنشاء
المؤسسات التي ترعى هذه القيم وتحافظ عليها.
وينبغي ألا يكون دعم المؤسسات الحكومية للفئات المدنية مشروطا بشروط يؤدي الوفاء
بها إلى فقدان تلك الفئات لاستقلالها. ليس من السليم أن تدجن الدولة، ممثلة في
الهيئة الحكومية، أو أن تبتلع المنظمات المدنية التي لا تنتمي إلى المتولين للسلطة
الحكومية أو الذين لا يدعمون سياساتها. وليس من صلاحية الهيئات الحكومية أن تفعل
ذلك. الحالة المثلى هي أن تتخذ الحكومة موقفا محايدا حيال المنظمات المدنية. ومدى
مراعاة الحكومة لهذا الاعتبار مقياس على قوتها وصلاحها وثقتها بنفسها.
ويجب أن يقوم توازن بين مصالح الحكومة والدولة، من ناحية، ومصالح الشعب
والمجتمع، من ناحية أخرى. وأحيانا كثيرة وفي حالات كثيرة يميل الميزان من حيث القوة
والتأثير لمصلحة الحكومة أكثر بكثير مما ينبغي. ومن اللازم أن يحكم ويحدد العلاقات
بين الحكومة والدولة والشعب والمجتمع ميثاق أوعقد اجتماعي محترم مدون أو غير مدون،
ميثاق يحدد طبيعة العلاقات بينها ويضع حدودا لعلاقات بعضهما ببعض، بحيث لا تتجاوز
الحكومة حدودها على حساب المجتمع ولا يتجاوز أفراد المجتمع الحدود على حساب الحكومة
والدولة، ميثاق يحظر على الدولة ألا تراعي المجتمع وحاجاته وأن تدوس عليه.
ولا بد من أن تستمد مضامين هذا الميثاق ليس فقط من مبادئ الديمقراطية والعدالة
وصلاح الحكم، ولكن أيضا من تاريخ كل مجتمع وثقافته وظروفه الخاصة به وقيمه الأساسية
ومن تطلعاته ومصالحه. ولا يصح أن يطبق على مجتمع ميثاق مستمد من تجربة مجتمع
آخر.
وحتى يسهل وضع مثل هذا الميثاق ويسهل تحقيقه يجب أن ينشأ شعور بالحاجة المتبادلة
والمشتركة بين الدولة يمؤسساتها، من ناحية، وسكانها، من ناحية أخرى: أن يشعر أفراد
المجتمع بأنهم يحتاجون الدولة، وأن تشعر الدولة بأهمية دور المجتمع الهام في المجال
الاقتصادي والثقافي والسياسي.
وهذا العقد أو الميثاق أساس من أسس الديمقراطية أو مدماك من مداميكها. والإطار
الديمقراطي من قبيل إجراء الانتخابات وصياغة الدستور والإعلان عن الأخذ به لا يكفي
لإقامة نظام ديمقراطي دون أن تتوفر الظروف المواتية لممارسة هذا النظام من قبيل
الحرية الفكرية، بما في ذلك حرية الإعراب عن الرأي، والمشاركة في الانتخابات الحرة
ووجود منظمات المجتمع المدني التي تمارس نشاطاتها التي تشمل النهوض بالحقوق المدنية
والسياسية والاقتصادية والدفاع عنها. وبذلك يقررون إلى حد كبير هوية الذين يتولون
السلطات الرسمية. حتى تكون هذه المؤسسات الديمقراطية فعالة ينبغي أن تكون مستعملة
وأن تكون مستفادا منها وممارسة. فإذا توفرت هذه المؤسسات دون أن تمارس لا يصح أن
يقال إن النظام الديمقراطي قائم.
ومما من شأنه أن يسهم في إيجاد علاقات بناءة وإيجابية بين السلطات الرسمية
للدولة وأفراد الشعب أن يراعي الواحد منهما الآخر، وأن ينشأ شعور لديهما باشتراك
تبادل الحاجة بينهما، وأن يعي كل منهما بوجوب معرفة حدوده وبوجوب مراعاة هذه
الحدود. ومما من شأنه أيضا أن يسهم في إيجاد علاقات بناءة وإيجابية بين السلطات
الرسمية وأفراد الشعب أن يدركا تكاملهما وأن يتصرفا بوحي من هذا الإدراك وهذا
التكامل.
وينبغي للسلطات الرسمية أن ترعى كل شرائح الشعب، ومنها شرائح الكتاب والأدباء
والفنانين والمفكرين في مختلف مجالات الحياة. فهؤلاء ينبغي أن يشاركوا وهم في حالات
معينة يشاركون مشاركة كبيرة في صناعة الوجدان والأفكار والقيم النبيلة والجميلة
ويؤدون دورا ذا شأن في حماية الثقافة الوطنية وإثرائها وإخصابها وفي تعزيز الهوية
القومية والإنسانية. وينبغي للسلطات الرسمية أن تؤمن لهم حضورا في الحياة السياسية
والفكرية والثقافية للشعب. مما ينتقص قيمة الدولة والمجتمع عدم إيلاء الاعتبار
للكتاب والأدباء والفنانين والمفكرين.
ومن المهم أن تنشأ وتتعزز هيئات وقوى المجتمع المدني التي تساعد على مراقبة
الممارسين للسلطة الحكومية وغير الحكومية. ومن اللازم العمل على إيجاد هيئات ثقافية
وفكرية وفنية وأدبية تكون من بين الهيئات المراقبة لسلوك المتولين للسلطة الحكومية
وغير الحكومية.
وتختلف نظم الحكم بعضها عن بعض في مدى اتساع أو ضيق رقعة حرية الإعراب عن الفكر
وفي مدى تحملها للاستماع إلى الفكر المخالف. كلما ضاقت هذه الرقعة وقل هذا التحمل
تعززت السمة التسلطية والقمعية والقهرية لتلك النظم. وتختلف النظم الحكومية بعضها
عن بعض في مدى تكرر تجاوزاتها وطغيانها للحفاظ على وجودها أو لسبب آخر، فكلما زاد
تكرر هذه التجاوزات تعزز الطابع الباغي الإملائي للنظام. وتختلف بعضها عن بعض في
مدى طمس أو وضوح الحدود بين خزانة الدولة وأموال المتولين للسلطات الرسمية، فكلما
ازدادت الحدود انطماسا تعززت صفة الدولة المستبدة وكلما ازدادت الحدود وضوحا تعززت
صفة الدولة الديمقراطية المساءلة. وتختلف بعضها عن بعض في مدى الاستقلال الذي تتمتع
به الصحافة ومدى الحرية التي يتمتع بها اصحاب الفكر والقلم، فكلما زاد ذلك
الاستقلال والحرية تعزز الطابع الديمقراطي للدولة.
وبسبب تخلف البلدان النامية في مجالات كثيرة، مجالات التنمية الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية ونشر التعليم ومحو الأمية واستكمال بناء مؤسسات الدولة، فإن
المؤسسات العامة والحكومية في البلدان النامية يتعين عليها القيام بوظائف أكثر من
الوظائف التي تقوم بها تلك المؤسسات في البلدان المتقدمة النمو.
وتؤدي المؤسسات الحكومية والعامة، من قبيل المحاكم والمجالس التشريعية
والاستشارية، في كل أنحاء المعمورة دورا كبيرا في إيجاد اتجاهات فكرية وعقائدية
وقيمية معينة وفي تشجيعها وتعزيزها. وحدث وما يزال يحدث احتكاك أو تصادم بين تلك
المؤسسات وشرائح من الشعب لأن تلك الاتجاهات تستوحي المصالح والاعتبارات الأجنبية
ولا تستلهم اعتبارات ومصالح الشعب، ما يؤدي إلى نشوء أو اتساع الفجوة بين مؤسسات
الحكم والشعب.
إن ممارسة المؤسسات الحكومية والعامة لسلطاتها وتأكيدها لمشروعيتها يتوقفان على
عوامل منها توليها لإدارة شؤونها وإمساكها بأداة القسر ووضع الأنظمة وتفردها
بامتلاكها لقدر كبير من القوة لإنفاذ الأنظمة ولجعل السكان يمتثلون لإرادة تلك
المؤسسات. ومن تلك العوامل أيضا تحقيق رضى سكان الدولة وقبولهم بالمعنى القيمي
والعقائدي الذي يتجسد في ممارسات تلك المؤسسات ووجوه سلوكها. وبذلك تؤدي هذه
المؤسسات دورا كبيرا في إيجاد الوعي الذي يعبر عن أيديولوجيتها وتوجهها. ويتم أداء
هذا الدور بواسطة إنتاج القيم والرموز وإشاعتها وتنشئة السكان عليها. ويتم هذا
الإنتاج والإشاعة والتنشئة عن طريق التثقيف والتوجيه القيمي والسياسي باستعمال
وسائط الاتصال وباستعمال وسائل الترغيب والترهيب التي تمتلكها تلك المؤسسات. وتوجد
هذه المؤسسات هذا الوعي
أيضا عن طريق تعهد فئات مثقفة بالرعاية واستمالتها عن طريق منحها امتيازات معنوية
ومادية.
وتسهم في تحديد معالم هذه الأيديولوجية عوامل موضوعية وذاتية غير المؤسسات
الحكومية والعامة. ومن هذه العوامل التاريخ والتراث وعوامل جغرافية وعرقية وبنية
علاقات القوى الاجتماعية وبنية المحيط الاجتماعي وطبيعة التنشئة وطبيعة الثقافة
السائدة والبيئة السياسية الخارجية. وهذه كلها تتفاعل مع وظائف وممارسات هيئات
الدولة. وفيما يتعلق بالأيديولوجية الرسمية التي تسود معظم البلدان العربية كتب
المفكر محمود أمين العالم أن هذه الأيديولوجية "تتراوح داخل مركب أيديولوجي بنسب
متفاوتة تجمع بين … الفكر القومي المظهري والفكر الوضعي التحديثي الإجرائي والفكر
الطائفي القبلي" ويتخذ هذا المركب الأيديولوجي، في نظر العالم،
"أشكالا بالغة التنوع والتعقيد والخفاء والمراوغة، تتستر وراء مظاهر التحديث
الخارجي البراني لإخفاء ما تتسم به من سيادة التخلف والتعصب والتسلط والجمود
والتدين المظهري النفعي واللاعقلانية، والرؤى الجزئية والآنية والمصلحية المحدودة
التي تفتقد الرؤية الاستراتيجية الشاملة والمنهجية الموضوعية العلمية. كما تخفي
بهذا المركب الأيديولوجي اعتمادها الأساسي على القوى الخارجية في دعم مشروعيتها
وحماية سلطانها".
ومن أسباب هذا المركب الأيديولوجي تعدد مصادر القيم التي تسود المجتمع وتعدد
أشكال أنماط الإنتاج وتعدد أشكال البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتعدد
مصادر الدخل والثروة. لوجوه تعدد هذه الأشكال دور فعال في تحديد طبيعة التوجهات
الثقافية والقيمية والفكرية التي تسود المجتمع والدولة وتؤثر فيهما وفي تحديد طبيعة
العلاقات العربية على المستوى الفردي والجماعي.[/size]