بين متاهات من كثبان الثلج والجليد نائية بأقصى الشمال الكندي، القريبة تخومه200 كيلومتر فقط من القطب الشمالي، تقع بلدة شبه منعزلة عن العالم، لكن نداء "الله أكبر" سيصل اليها بعد 10 أيام ليرتفع من مأذنة مسجد هو الآن على متن عبارة تحمله اليها فوق مياه نهر يمر بجوارها، وحين يتم تثبيته كجاهز للتركيب سيأتيها بدفء تحتاجه بالتأكيد، فمعدل حرارة جوها يصل الى 40 درجة تحت الصفر وأكثر.
تلك البلدة اسمها إينوفيك، وفيها يقيم بين 75 الى 80 مسلما، جميعهم تقريبا عرب جاؤوها من كندا التي يحملون جنسيتها. ولأنهم كانوا بلا مكان يقيمون فيه الصلاة، سوى بيت من الخشب متنقل عرضه 3 بطول 7 أمتار وبالكاد أصبح يسع نصفهم تقريبا، فقد نسجوا حلما ببناء مسجد لهم بإينوفيك البالغ عدد سكانها 3700 نسمة فقط. مع ذلك فهي مهمة وفيها ما يقطع السائح من أجله آلاف الكيلومترات ليراه لأنه يأخذ بألباب النظر.
ومع أن كل ما في البلدة التي يعني اسمها "مكان الناس" بلغة الاسكيمو الأصليين هو صقيعي من ارهاب الجليد القاسي على سكانها، الا أن الأسعار فيها تغلي على نار، فهي تزيد على أسعار أي مدينة كندية تقريبا، لأنها نائية ووصول البضائع والمواد الخام اليها مكلف وصعب ومرهق كزمهريات ورياح شتائها الطويل.
لذلك تحول الحلم ببناء المسجد الى كابوس مالي يؤرق قلة من المسلمين وجدت نفسها غير قادرة على جمع ثمن الأرض وتكاليف البناء والتجهيزات وتوابعها المتنوعة، وكله يلزمه 750 ألف دولار على أقل تعديل، اضافة الى أن الخبرة ببناء وتجهيز المساجد وكيف يجب أن تكون غير متوفرة فيها لأحد.
صحافي وطبيب سعودي يصف العلاج
بسرعة طوى صدى المشكلة المسافات ووصل الى طبيب وصحافي سعودي يقيم في كندا أيضا، ولكن بعيدا عن اينوفيك أكثر من 4 آلاف كيلومتر، ويشرف على مؤسسة خيرية اسلامية أسسها مع زوجته هناك تحت شعار يريح المؤمنين، وهو "السنة والصحابة والسلف الصالح" الظاهر بوضوح في موقع "جمعية زبيدة تلاب الخيرية" لمن يرغب بزيارته على الانترنت، وهو بالانجليزية فقط.
وبسرعة شمّر الصحافي الدكتور حسين سعود قستي، المولود منذ 43 سنة في حي جرول بمكة المكرمة، عن ساعديه وقرر أن يحقق لمسلمي البلدة الجليدية حلمهم الدافيء بمسجد يبنيه لهم بنصف مليون دولار، أي أقل بمئتي ألف من تكاليفه بإينوفيك، وساعده عليه من بعيد بالجهد والتبرعات بعض المقيمين في البلدة من العرب، كما ساهم آخرون في كندا بالتبرع، ومنهم سيدة سعودية تحفظ على ذكر اسمها بناء على طلبها، وساهمت وحدها بأكثر من 190 ألف دولار.
المهندس العراقي أحمد الخلف على الثلج
وفي مقدمة المساهمين بالجهد والتعب الكثير كان المهندس العراقي من البصرة، أحمد الخلف، المولود في الكويت قبل 37 عاما، والمقيم منذ 9 سنوات بإينوفيك التي احتفلت في يوليو (تموز) 2008 بمرور 50 سنة على تأسيسها، ومع الاثنين تواصلت "العربية.نت" عبر الهاتف والبريد الألكتروني طوال أسبوع انتهى الثلاثاء 14-9-2010 بجمع كافة المعلومات عن المسجد الأقرب الى امتداد الجليد في القطب الشمالي، وهو بهذا المعنى أقرب الى القطب من مسجد نورد كمال بمدينة نوريلسك في سيبيريا الروسية وأقرب اليه جغرافيا أيضا من مصلى مدينة ترومسو الذي أقامه في شمال النروج قبل عامين سعودي أيضا، لكن اسمه مجهول.
وهناك جهة ثانية ساهمت من بعيد بجهد بسيط لتكتمل الشخصية الفريدة من نوعها للمسجد، هي "العربية.نت" التي حين علمت من تواصلها مع القيّمين عليه بأنهم حائرون في اختيار اسمه، اقترحت بدورها اسما وافقوا عليه سريعا، لأنه يوحي للحال بالبعد الجغرافي للجامع المبني من خشب يقاوم الصقيع، فاقترحت عليهم تسميته "مسجد نهاية العالم".
ما أن سمع الدكتور قستي الاسم حتى أبدى سروره به عبر الهاتف، وقال: "صحيح. انه الأفضل، فهو اسم على مسمى وأنا موافق عليه تماما، والقرار هو في النهاية للأخوة بإينوفيك على أي حال". وهكذا حدث مع المهندس الخلف بوصفه مدير مشروع المسجد بالبلدة، فقد هف فؤاده سريعا للاقتراح وقال: "نعم، وافقنا وسنطلقه على المسجد حين يصل" بحسب ما ذكر عبر هاتفه النقال من البلدة التي يعمل فيها مهندسا مدنيا ومديرا لمشاريع هندسية بفرع وزارة الأشغال هناك.
ويقول الكتور حسين ان أنسب علاج وجده للمشكلة المالية هي بناء المسجد في مدينة وينيبغ، عاصمة مقاطعة مانيتوبا بوسط كندا، حيث يقيم مع زوجته السعودية الدكتورة سوزان غزالي وابنه وابنته منها، ثم نقله كما البيوت الجاهز للتركيب بشاحنة ثم بعبّارة تمخر به مياه نهر يصل الى إينوفيك، حيث محطته الأخيرة.
وهذه هي أطول عملية شحن ونقل برمائية معروفة حتى الآن لبناء جاهز للتركيب، بحسب ما يؤكد الدكتور حسين، لأنها تزيد على 4300 كيلومتر تقريبا وتستغرق 45 يوما "لذلك سنعمل على ادخالها بكتاب غينيس للأرقام القياسية" وفق تعبيره من وينيبغ التي يقيم ويعمل فيها بحقل البناء وصحافيا يكتب المقالات بصحيفة شهيرة فيها اسمها "غراسروت" الى جانب اهتمامه بشؤون الجمعية كناطق باسمها ومدير لحساباتها، وهي جمعية أسسها مع زوجته تكريما لوالدتها زبيدة هاشم تلاب التي توفيت بالولايات المتحد قبل 4 أعوام.
نقله مسافة 2900 كيلومتر كلف 45 ألف دولار
وذكر الدكتور حسين قستي أن بناء "مسجد نهاية العالم" بدأ في ابريل (نيسان) الماضي، وساهم هو شخصيا بالتصميم وبالعمل اليدوي مع العمال والفنيين، وحين انتهى البناء اتفقوا مع سائق كندي خبير بمنطقة السفر البري الى إينوفيك واسمه كفن أندرسون فجاء ومعه شاحنة عملاقة عرضها أكثر من 7 أمتار مزودة بفريق من العمال والفنيين وضعوا كامل هيكل المسجد البالغة مساحته 457 مترا مربعا وبداخله لوازمه من منبر وثريات وأبواب وسجاد، برافعات ضخمة على ظهرها.
ثم بدأ أندرسون رحلته في أوائل أغسطس (آب) الماضي موغلا بالسير البري نحو الشمال وسط ظروف مناخية هي دائما صعبة بالفعل هناك، فمر بمدينة ادمنتون بمقاطعة ألبرتا، ومن بعدها أمعن في السير البطيء طوال شهر كامل لم يقطع خلاله سوى 2900 كيلومتر فقط، أي المسافة بين السعودية والمغرب تقريبا.
تلك المسافة هي أبعد من منتصف الطريق الى إينوفيك بحوالي 400 كيلومتر تقريبا، وهي تنتهي عند بلدة في منطقة لا تستطيع الشاحنة التوغل من بعدها بالبر، وفيها انتهت مهمة السائق كفن أندرسون التي تقاضى عنها ما قد لا يصدقه حتى محترفو العمل في النقل البري هنا وهناك، وهو أكثر من 45 ألف دولار.
ويطلقون على تلك المنطقة اسم "هاي ريفر" الواقعة عند ضفاف "بحيرة العبيد الكبرى" المعروفة للكنديين باسم "غران لاك دي زسكلاف" ومنها تم انزال المسجد من الشاحنة برافعات وضعته على متن عبارة عملاقة أبحرت به منذ أسبوعين، وما تزال مبحرة للآن، في مياه نهر ماكينزي الجاري الى اينوفيك الواقعة عند دلتا تتفرع من النهر العميق.
ومع العبّارة تبحر دعوات من ينتظرون المسجد في إينوفيك بأن تنتهي رحلة النقل النادرة بسلام بعد 10 أيام وتصل الى هدفها الموعود ليتم تثبيت المسجد على احدى قطعتي أرض اشتراهما مسلمو البلدة في حي سكني بمبلغ 97 ألف دولار كندي، حيث سيدعون السكان لحفل تدشينه كأول جامع في الجزء الجنوبي الغربي من المحيط المتجمد الشمالي.
والسبب أن أي مشكلة تعترض العبّارة قد تكون مؤذية، لأن "ماكينزي" يتحول الى يابسة من الجليد خلال شتاء طويل يعصف بدءا من أواخر أكتوبر (تشرين الأول) بكل المنطقة المعروفة هناك باسم الشمال الكندي الكبير، المحصور بدوره ضمن الدائرة القطبية الأولى للطرف الأقصى والأعلى من الأرض، أو ما يطلقون عليه اسم "الشفق القطبي" للمحيط المتجمد الشمالي، حيث اللاشيء هو جليد أبدي قد يستمر حتى قيام الساعة.
وكلف 49 ألف دولار لنقله بعبّارة نهرية
أما تكاليف نقل "مسجد نهاية العالم" بالعبارة النهرية الى إينوفيك "فهي تقريبا 49 ألف دولار" بحسب ما قال المهندس أحمد الخلف. وهو يضيف أن المسجد لن يكون كاملا حين يصل، فهو بحاجة الى المزيد من السجاد والثريات ووضع اللمسات الهندسية الأخيرة عليه، لذلك فأول صلاة ستقام فيه ستكون بعد أسبوعين تقريبا من وصوله الموعود الى بلدة ليس فيها مقبرة ولا مدرسة اسلامية الى الآن، وفيها حدثت حالة وفاة واحدة لمسلم غاب عن الدنيا هناك، فنقلوا جثمانه بالطائرة الى مقبرة اسلامية في إدمنتون، حيث يقيم ذووه.
ويفكر المهاجرون المسلمون في إينوفيك باقامة مدرسة ومقبرة اسلامية، وربما مركز ثقافي في الأرض الثانية التي اشتروها، لكن هذا الحلم مستحيل التحقيق وسط الصعوبات المالية التي يعيشونها جراء التزامات وقعوا عليها، فالمسجد حين يصل يحتاج الى 40 ألف دولار لتركيبه وتثبيته وتجهيزه بالكامل، في ما خزينة "جمعية إينوفيك الاسلامية" خالية من أي مبلغ يشفي الغليل.
ويتحدث المهندس خلف عن إينوفيك وبيئتها فيقول ان مواقيتها صعبة على المسلمين "ففي رمضان نصوم بين 17 و18 ساعة يوميا". ويذكر أن ثلث عدد العرب يعملون سائقي تاكسي في المدينة التي تشهد 30 يوما في العام، أي من 7 دسيمبر الى 7 يناير، فيبتلعها الظلام خلالها بشكل كلي، ومن دون أي شمس على الاطلاق.
ومعظم العرب في إينوفيك هم من السودان، وفيها مصريان وأردنيان، أحدهما يملك دكانين للبقالة والسمانة والآخر يملك صالونا للحلاقة، اضافة الى عدد من اللبنانيين وآخر من الفلسطينيين، معظمهم من مواليد لبنان وأحدهم يملك فيها مطعما.
أما أقدم العرب في إينوفيك فهو السوري الوحيد المقيم فيها، واسمه طلال الخطيب، وهو الآن في الستينات من عمره ووصل اليها قبل 28 سنة، ويعتبرونه أغنى الجالية الصعيرة التي يعمل معظمها سائقين لسيارات تاكسي بالأجرة. وبملك أحد السودانيين في إينوفيك شركتين، أحداهما للاسعاف والثانية لسيارات التاكسي، في ما يملك سوداني آخر شركة للأمن والحراسة.
كما زود الدكتور حسين قستي "العربية.نت" بمعلومات عن صيف المدينة المطلة في مشاهد خلابة على جبال ريتشاردتسون الشهيرة هناك، مع أنه لم يقم بزيارتها الى الآن، فيقول ان إينوفيك، التي تحتوي على اشارة مرور ضوئية واحدة فقط، تشهد 57 يوما تبدأ من أواخر مايو مرورا بيونيو الى أوائل يوليو لا تغيب فيها الشمس أبدا، وتظل بادية للعيون طوال 24 ساعة باليوم الذي بالكاد ينام فيه السكان 4 ساعات على الأكثر.
هذه الظواهر الطبيعية النادرة هي أكثر ما يحمل السياح لزيارة البلدة التي يحملهم اليها أيضا الصيد في براريها بالربيع وخلال الصيف القصير. أما العرب فلم يأتوها سياحا ولا صيادين، بل مدفوعين بطفرة غاز طبيعي ظهرت مكامنه فيها قبل 40 سنة.
ثم انتهت الطفرة بتقلص احتياطات الغاز، وبقي فيها موظفون في الدولة الكندية وآخرون يبحثون عن الثروات ويعتقدون أنها قد تكون أكبر محضن لاحتياطات ضخمة من النفط، واذا صحت توقعاتهم فستزدهر إينوفيك كما كمدن الخليج العربي بثروة من السائل الأسود تفنى مع الزمن، الا أن "مسجد نهاية العالم" سيستمر فيها كثروة لا تنتهي.